اعتزل ما يؤذيك..
وعليك بالخليل الصالح وقلما تجده..
وشاور في أمرك الذين يخافون الله..
(عمر بن الخطاب رضي الله عنه)
الألم والخذلان هما عنوان حياتي منذ بدأت رحلة الوعي وحتى الآن؛ هكذا بدأت ذات القلب الطيب- كما يحلو لي أن أسميها- حديثها معي. في ذلك المقهى الهادئ؛ تحديدا على تلك الطاولة المطلة على الحديقة جلسنا أنا وهي نحتسي فنجانين من القهوة، ثم بدأت تفسير جملتها الصادمة، كنت محافظة على التقاء نظراتي بنظراتها كنوع من إبداء الاهتمام والتركيز معها، وبالتزامن مع ابتسامتي وصمتي بدأت تسرد كل ما اختلج في أعماقها وكتمته لسنوات طويلة. لم يكن في حياتها إلا صديقة مقربة واحدة وعدد من الأشقاء والشقيقات.
حدثتني ذات القلب الطيب وهي تنظر إليّ تارةً ثم تبعد نظرها عني تارةً أخرى، كانت وكأنها تحاول استعادة ذكريات وأحداث ومواقف بعينها تريد أن تنقل صورتها لي كما حدثت لتشعرني بكم المعاناة التي عاشت فيه وقتها.. كنت أسمعها وأتابع بنظري عينيها.. تلك العينان اللتان كانتا تتكبران على الامتلاء بالدموع..
حافظت على تواصلي البصري معها بجانب استماعي واهتمامي الواضحين بحديثها. استمر ذلك الحديث قرابة الساعتين، ثم وجدتها تردد: (الآن أنا ارتحت!).
وبتلقائية وجدتني أسألها: هل كنتي تشعرين بالتعب؟
أجابت بتلقائية نادرة:(نعم بالتأكيد. جداً جداً).
لاحظت من حكايتها وحديثها كماً هائلاً من الشعور بالألم والخذلان وخيبة الأمل، كانت في عينيها سحابة من الندم أو تأنيب الذات على فيضان الثقة العمياء والتسامح المفرط واللذين كانت تمنحهما لكل من يتعامل معها حتى وإن أساء إليها وكرر الإساءة مرات ومرات…
سألتها وبوضوح أكثر عن سبب شعورها بالتعب؟؟ وأجابت على الفور :(أقرب الناس).. كان لابد من الصمت! ثم طلبت منها أن تصف لي شعورها بالتعب… وبدأت في السرد البسيط لكل تفاصيل ذلك الشعور المؤلم والذي كان يقيدها أحياناً عن أبسط مهام حياتها اليومية.
حكت لي كيف كانت تفضل البقاء منفردة بنفسها في سريرها أو مع صديقاتها أو غارقة في العوالم الافتراضية لوسائل التواصل الاجتماعي فقط لتمضية الوقت وعدم السماح لعقلها بتحليل ما تعيشه من مواقف مؤلمة.
كانت تحكي لي لماذا كانت تتابع المسلسل بعد المسلسل وتقضي الساعات تتابع بقية مواقع التواصل الاجتماعي..
كانت ذات القلب الطيب في الفترة الأخيرة وقبل مقابلتها لي تتجنب اللقاءات الاجتماعية للعائلة ولبعض الأصدقاء، وسألتها عن سبب ذلك وأن تلخصه في كلمة واحدة فأجابت: (تعبت!).
هنا تيقنت أنها قد أاستهلكت كامل طاقاتها من الصبر ‘التجاهل والتسامح، ولكن بعد أن تألمت كثيراً وتكبدت الكثير من الضريبة النفسية لاحتمال أكثر من شخصية سامة في حياتها!!
من وجهة نظري المتواضعة أعرف الشخصية السامة بأنها تلك الشخصية في حياتك والتي تصيبك بالإرهاق النفسي والتعب الجسماني غير المبرر بعد انتهاء لقاءك بها، هي تلك الشخصية التي تحرك المشاعر السلبية لديك، بل وتتسبب بها. هذه الشخصية من الممكن أن تتسبب لك في أمراض نفسجسمانية أو تعطيل أو حتى تقليل استمتاعك بحياتك.
هذه الشخصيات السامة من الممكن أن تشعرك طوال الوقت بأنك تحت المجهر وبأن ما تقدمه وتفعله ليس كافياً.. وبأنك أنت ذاتك لست كافياً فدائماً أنت مقصر، دائماً تتعرض للانتقاد، وعلى طول الخط أنت ينقصك شيء.. وباستمرار تطلب تلك الشخصيات السامة التضحية والرعاية والاحتمال والعطاء بلا حدود وليس مسموحاً لك بالتراجع؛ فقد أضحى ما تقدمه حقاً مكتسباً لا تملك حق التراجع عن تقديمه.. وتستمر سلسلة استنزاف طاقتك ومشاعرك الجميلة وعطاءك اللامحدود، ثم تأتي لحظة الألم والخذلان في وقت غير متوقع ‘بل وربما في ذروة الطمأنينة والعطاء من جانبك لهم، والسبب غير منطقي وغير مفهوم!
وقتها يكون مطلوباً منك أحد أمرين؛ إما أن تقبل ذلك الألم والخذلان وتكمل العلاقة، أو أن تكون مهدداً بالطرد من الجنة المزيفة لتلك الشخصيات السامة وإنهاء علاقتك بهم، وتتوالى الأحداث.. وتتكرر المواقف وتمر التضحيات تلقائياً.. ويأتي يوم أخر يحمل وجهاً آخر للألم والخذلان، وتأتي مثله أيام كثيرة، وفجأة تجد نفسك أمام نفسك وأمامهم.. وفي تلك اللحظة تنظر لنفسك وتسألها: لماذا أعيش بكل هذا الألم وأحاول الحفاظ على المثالية وأن أكون دائماً سبباً في سعادتهم وأقبل أن يكونوا سبباً في ألمي؟
تساؤلات كثيرة ربما تتأخر وربما تأتي في الوقت المناسب، لتكون قد وصلت لبداية رحلة الوعي الداخلي وفهم الذات؛ هنا تكون قد وصلت إلى مرحلة التقييم لتلك العلاقة، ولكمية السمية التي تلحقك جراء الاحتفاظ بتلك العلاقة.. وربما وصلت لقرار أن تعتزل ما يؤذيك!
وهنا تتحدث مع ذاتك وتفكر؛ ربما كان مقدراً لي أن أتألم كي أتعلم، لكن الأكيد أنني غير مجبر على الإطلاق على احتمال نفس الجرح أو شبيهاً له دون مبرر منطقي، لابد أن أعلم أنني أستحق الأفضل دائماً، وإن كنت قد اخترت طريق العطاء والتسامح بلا حدود فلابد أيضاً أن يكون لنفسي حظاً من ذلك العطاء ومنح الإيجابية لنفسي لشحذها على مواصلة مهام الحياة، وإعطائها أيضاً حظاً من التسامح وقبول العيش بدون شخصيات ربما أكون قد تعودت على وجودها في حياتي، وربما أكون قد اعتدت الألم منها.. أحتاج أن أسامح نفسي على إخراجهم من حياتي، أو على الأقل تحجيم وصولهم لها.. من حقي أن أعيش بسلام وراحة وبجودة حياة عالية.. فالعطاء لا يعني الاحتراق، والفرق واضح بين الاثنين!!
سألت ذات القلب الطيب: هل تعرفين معنى العلاقة ببساطة؟
أجابت: هي ارتباط.
وافقتها وقلت: نعم هي ارتباط وليست سجناً للنفس!! هي اختيارنا وعلينا الهرب عند محاولة إجبارنا عليها حفاظاً على إنسانيتنا وسلامنا الداخلي.
قلت لها: أحياناً نكون مجبرين على الإبقاء على بعض العلاقات لسبب أو لآخر، ولهذا فلابد أن أقف من وقت آخر وقفة صدق مع نفسي وبوعي ذاتي لتقييم مدى جودة حياتي مع وجود تلك العلاقة فيها، وأن أي علاقة من أي نوع ليس مطلوباً مني الاستمرار فيها طالما أن ضررها أكبر من نفعها على شخصي وحياتي!
لابد من ذلك التقييم المستمر للعلاقات مع الآخرين، وإن كنت لا أستطيع الحكم بصورة صحيحة فما المانع أن ألجأ لمشورة المختص الثقة؟
ليس عيباً أن تنسحب من علاقة أو أكثر عنوانها أنها علاقات سامة!
كن شجاعاً ولا تخش القيل والقال، فلن يعيش ألمك أحد، ولن يشعر بوجعك غيرك!
وتذكر أن سعادتك هي مسؤوليتك وحدك!
وأخيراً:
إنه اختيارك.. إما أن تقبل، وإما أن تعتزل ما يؤذيك!
#كوتش_سلوى_الطويل
#دايما_عندي_حكايات
#محتاجين_وقفة
بقلم ا. سلوى الطويل